المواطنة والانتماء: تجربة ومعنى

سبت, 20/12/2025 - 11:28

في الآونة الأخيرة، كان حديث فخامة رئيس الجمهورية واضحًا وصريحًا حول الوطنية والوحدة الوطنية، وحول أهمية دور النخبة في بناء الدولة وترسيخ الاستقرار. وهو حديث يعكس إدراكًا لحاجة الوطن إلى التماسك وتوحيد الجهود في مرحلة تتطلب مشاركة الجميع، كلٌّ من موقعه.

غير أن هذا الحديث، على وجاهته، يطرح إشكالًا حين يتعلّق بتحديد مفهوم النخبة. فالنخبة ليست بالضرورة كل من هو قريب من النظام، وليست حكرًا على السياسيين أو المتصدرين للمشهد العام. فإلى جانب هذه الفئات، توجد نخبة أخرى، لا من هذا الطرف ولا ذاك، تضم كفاءات وخبرات وأصحاب تجارب داخل الوطن وخارجه، لا تبحث عن منصب، ولا تسعى إلى موقع سياسي، لكنها تمتلك ما يمكن أن تقدّمه للوطن بصدق وتجرد.

الإشكال أن هذه النخبة تبقى خارج دائرة الفعل، بسبب غياب قنوات اتصال واضحة ومباشرة بينها وبين النظام، وغياب إطار مؤسسي يتيح لها الإسهام، لأنها ليست في الواجهة، ولا تتحرك ضمن الأطر التقليدية. ومن هنا، يصبح الحديث عن الوطنية والانتماء غير مكتمل ما لم يُدعَّم بآليات عملية تفتح المجال أمام كل أشكال النخب، لا فقط تلك القريبة من دوائر القرار.

لا شكّ أن الدعوة إلى الوطنية أمر إيجابي وواجب وتوجّه وجيه، لكنها تبقى خطوة أولى فقط. فالتحدي الحقيقي يتمثل في تعزيز المواطنة عبر ترسيخ الانتماء الفعلي للوطن، لا بالشعارات، بل بالممارسة، وبالشعور بأن الوطن حاضر في حياة مواطنيه داخل حدوده وخارجها.

ومن الأمثلة الحية التي أستحضرها من واقع التجربة، لدى بعض الدول التي نجحت في تعزيز المواطنة، ما حدث لي سنة 2007 في ألمانيا، حيث وصلتني ثلاث رسائل من مكتب الضمان الاجتماعي، كانت آخرها داخل ظرف أحمر اللون. كانت الرسالة مختصرة وحازمة، ومضمونها واضحًا:

عليكم الحضور يوم الاثنين الساعة العاشرة صباحًا، وإلا سيتم إرسال الشرطة.

تمّ الحضور في التاريخ والوقت المحددين، وبعد توجيه سؤال مباشر عن سبب عدم الحضور رغم إرسال عدة رسائل، كان حديث السيدة بالحرف الواحد:

"أنا هنا أمثّل القانون الألماني، والقانون ينص على ما يلي:
أي مقيم في ألمانيا يجب ألا ينام جائعًا، إلا إذا اختار ذلك بنفسه.
لذلك، عليه إما إثبات مصدر دخله، أو التواصل معنا لمساعدته في إيجاد عمل."

تُبرز هذه اللحظة أن المواطنة ليست مجرد وضع إداري، بل شعور عميق بأن الدولة ترى الفرد، وتحمي كرامته، وتعتبره جزءًا من نسيجها الإنساني والقانوني. ومن هذا المنطلق، يصبح تعزيز الانتماء ضرورة لا ترفًا، داخل الوطن وخارجه، عبر سياسات وممارسات ملموسة.

وفي هذا الإطار، يبرز اقتراح إحداث وسام شرفي للمواطنة يُمنح في عيد الاستقلال، وفق بروتوكول واضح وشفاف، قائم على سؤال جوهري واحد: ماذا قدّم الفرد لوطنه؟، ويشمل كل من ساهم بصدق، سواء داخل الوطن أو في المهجر.

أما في سياق الوحدة الوطنية، فتُظهر تجارب بعض المجتمعات أن الخلافات المحلية البسيطة تُحال غالبًا إلى وجهاء الأحياء أو ممثلي المجتمع، تفاديًا لأحكام قد تُنتج شرخًا دائمًا بين الساكنة، وهو ما ينسجم مع الحكمة الشعبية التي تؤكد أن الانتماء فوق العِرق
 
يا الشّعب ابْيَاظْ ؤُ لاَهِي عَارْ
واخْظَارْ انت كَامَلْ شِگَه
و الشّگّه تَبْيَاظْ ؤُ تخْظَارْ
يَغيْر اتَّمْ الاّ شگّه

وتختصر هذه الكلمات معنى عميقًا مفاده أن الوحدة ليست لونًا واحدًا، بل تنوّعًا منسجمًا، وأن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاختلاف، بل في تحوّله إلى أداة لتمزيق المجتمع.

وفي السياق ذاته، سبق توجيه رسالة إلى رئاسة الجمهورية 
انطلقت من قناعة مفادها أن غياب قنوات مباشرة وواضحة للتواصل مع المواطنين، ولا سيما النخب التي لا تعمل في القطاع العام ولا تتصدر المشهد السياسي، يحدّ من تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.

وهو ما يؤكد الحاجة إلى آلية مؤسسية بسيطة وفعالة، تقوم على إنشاء نواة تواصل مباشرة بين القيادة والمواطنين، أو مع النخب الوطنية التي لا تبحث عن منصب، وذلك عبر مكتب مخصص لإيداع الأفكار والمقترحات، يكون هدفه تحويل المواطنة من خطاب موسمي إلى ممارسة يومية مستدامة.

فالمواطنة الحقيقية لا تُفرض، بل تُبنى؛
وتُبنى عندما يشعر المواطن أن له مكانًا، وصوتًا، وقيمة، وأن الوطن لا يطلب منه فقط أن يُحبّه، بل يُبادله هذا الحب بالعدل، والإنصاف، والاحترام.

المقال مرفق برسالة سبق إرسالها، تخدم نفس الموضوع، وتحمل عنوان:
مساهمة مواطن في بناء وطنه .

حفظ الله موريتانيا

 

__________
محمد الأمين لحويج